مأمون الجاك :
للتواصل مع صفحة الكاتب على الفيسبوك الرجاء إضغط هنا
ما عساها تكون الحياة ؟
حلم الرب ، في سباته الأزلي .. كوابيسه كوارثنا ، يفيق للحظات فتموت حضارات وتبعث أخرى ، ويوماً ما سيصحو وسنتلاشى ، سيبقى وحيداً ، وسرعان ما يمل فيعيد اللاشيء و كل شئ في حلم آخًر أكثر عبثا .
***
قابعاً في أعماق عتمتي الأبدية ، الظلام ينساب محيطاً للهواجس ، أصوات حادة تنفذ عبر أذنيّ المتعبتين ، أخشى أن تتبعني في أول أحلامي عندما يتحقق ، غارت عيناي من التحديق في اللاشيء واللا ضوء في نهاية النفق ، كلما اقتربت من الرؤيا تكاثف الضباب ولم يغمرني النور ، هاهي محاولة أخرى لخلق حلم تبوء بالفشل ، كم يبدو الليل لا متناهياً ، شعرت أن أجفاني تخاصمت .. كأن صورة غرفتي مطبوعة على جفني من الداخل ، ليالي الأرق الطويلة لم تجد نفعاً في هدم جدار الواقع ، أستيقظ متعباً كما لو أنني لم أنم منذ سنين ، لا أعلم كم من الوقت مضى ، و فمُّ الليل الواسع ينتظر أن أطعمه شيئاً ما … ربما كنت حلم رجل أعمى ، ربما أصير أعمى في منامي ، كل هذه الوساوس تتلاشى مع تسلل أشعة الشمس نحو غرفتي وولادة يوم جديد .
ولدت بلا أحلام ، أشبه الليل الذي لم يشاهد الشمس لاستغراقه في النوم ، لا بل كالنهار الذي لم يذق متعة الحلم ، عندما كان إخوتي يقصون على بعضهم تلك الأشياء التي تزورهم في منامهم ، كنت أبقى صامتاً كتمثال …
– يوماً ما ستكون ممنوناً لهذه النعمة لأنك لن ترى الكوابيس
.تقول أمي
– ولكن ما هي الكوابيس ؟ أيسرق أحدهم أحلامي من تحت الوسادة ؟! أسأل أمي في سذاجة طفولية ، متأملاً الليالي الطويلة التي قضيتها في محاولة اكتشاف من يفعل ذلك ، لكنه لم يظهر وأيضاً لم أجد الأحلام ..
في البدء أزعجني الأمر كثيراً ، لا بد أن لعنة ما أصابتني ، لكن هنالك من لم يرَ الحياة حتى ، ظل هناك في العدم ، آخرون لم يسمعوا صدى أصواتهم ، ظلت حبيسة حلوقهم ، وكثيرون لا أشكال محددة لهم للأشياء . الأحلام والكتب منحهما الله للإنسان تعويضاً عن حرمانه من الخلود ، فعلى الأقل لم أفقد كل شيء.
هنالك أحلام تشبه الكتابة ، هناك كتابة تشبه الأحلام ، يخبرنا امبرتو ايكو بذلك ، كقصص ماركيز وهذيانات أبطال دوستويوفسكي ، الأحلام انعكاس للواقع – أنا لا أحلم اذا أنا غير موجود – – في الحقيقة لا وجود لي خارج هذه الغرفة :
– كيف تبدو الأحلام ؟ أتساءل في فضول .
– كنفاذ الضوء من خلالك ..
– وماذا تشاهدون هناك ؟
-عوالم مجهولة ، نعيش حيوات متعددة ، فتيات شهيات ، وأحياناً تتحقق تلك الأحلام .
– كل مالم أحلم به ، تحقق .
ألامس أجساداً عدة ، تتماوج في مخيلتي : امرأة ممتلئة رأيتها نهارا ، طفلة في العاشرة ، أنحني لأقبل صبية مثيرة فتنطبق شفتاي على خد صبي جميل , أتبع خطواتي إلى غرفة خالية ، أحتسي نبيذاً معتقاً فأشعر بالخدر والصبي يخاطبني بأنامل الشعور ، كأنَّه يقرأ أفكاري عندما يحتوي تجويف يده أعصابي ، يدٌ خبيرة بغريزتها ، تعزز تدفق المشاهد في مخيلتي ، وفي لحظة سحرية كل الجميلات يخرجن ، ينتصبن أمامي كما أرغبهن في الخيال ، ولو أنك رأيت قميصي لحظتها لحسبته شراع سفينة تتلاعب به الريح ، تقاسمت أعضائي إرادتي ، لم أعد أتحكم بشيء ، تلقائية مطبقة على حركتي ، منفعلة ، متوترة ، محمومة ، وكمن يشعر بخنجر يخترق قلبه خرجت مني آهه ، وأخذت تعلو وتعلو حتى صادمت السحاب فهطل الغيث وامتَّنت الأرض ، وكأن الصبي لم يكن إلا تجسيداً للقحط ، هرب فجأة وتركني مستلقياً على العشب الأخضر ، وانقطع شريط المشاهد ، يعاودني شعور بالخزي والندم ، لا أرغب في مغالبته حتى ، أهرب منه بأن أفتح كتاباً ، فأراه هناك ، متكئاً على عكازه القديم أمام بوابة الأحلام ، متطلعا بعينيه المنطفئتين نحو هوة الفراغ ، عند سماعه لوقع خطواتي انتبه فزعاً :
– أرجو أن لا أكون قد أيقظتك من رقادك اللانهائي … قلت ذلك معتذرا ومتخوفا من أن لا يفهم لغتي.
رد بسرور :
– في الواقع لقد أخرجتني من متاهة معقدة ، لقد ظننت أني سأبقى هناك إلى الأبد ، ثم استدرك كأنه رأى حيرتي : الموتى يتحدثون ذات اللغة .
– لكنني لم أمت بعد .. صحت مذعوراً
– والحالمون أيضاً … محاولا طمأنتي
– نعم ، هذا ما جئت لأجله ..
– ماذا ؟
رويت له حكاية الفتى الذي فقد الأحلام كأنها لا تخصني وكأني لست هو .
– فقد الأحلام ! كيف ؟ .. قال مهتاجاً
– انه عنوان مضلل ، في الواقع هو لم يمتلكها يوماً
– امم ، ربما كان ينسى أحلامه عندما يستيقظ ، كالرجل في قصة ماركيز ” عينا كلب أزرق” ، إنها فكرة غريبة ، لو كنت حياً لدونتها .
– ولكني أكتبها الآن ، في هذه اللحظة ..
– انه أنت إذاً ، ثم أردف مندهشاً : لكن إذا كنت لا تحلم فكيف تكتب قصصاً ؟
– لذلك أتيت إليك ، لتعلم بعض الحيل ، هل خطرت بمخيلتك فكرة كهذه أو قابلتك في كتاب ما ؟
– لا أظن ، إننا نتخلى عن مئات الأفكار المجنونة ، ربما لأننا نضع أنفسنا في إطار معين – أكثر رصانة ، جديون وبعيدون عن الاستهتار وربما لنتركها لكم أنتم القادمون ، تلتقطونها من بحر الخيال …أظنها فكرة جيدة كبداية لقصة مليئة بالخدع والتآمر ثم سألني بدون اكتراث كأنه لا ينتظر إجابة : هل ما زالت كتبي تقرأ ؟
رددت عليه محاولاً استفزازه :
– لا أدري ، لعلي الآن أقرأ إحدى قصصك ..
لم يبد عليه التأثر والاهتمام بإجابتي وواصل حديثه :
– من الممكن أن تستخدم حيل قديمة كأن يحلم الفتى بأنه لا يستطيع الحلم ، أو أنه حلم شخص آخر يحلم بأنه غير قادر على رؤية أحلامه ،
– إنها خدع بالية ، استخدمتها أنت وإدغار الن بو … ثم إنني قاص ولست محتالا ؟
ضحك
– اذا ستستخدم حيلة التقائك “ببورخس” ، لا أدري لكنها تبدو لي مبتذلة بعض الشيء .. ثم ابتسم خائفاً من هول الفكرة.
رددت عليه حانقاً :
-أنت الذي تكتب قصصاً عن نقد لروايات لم تدون قط وأدباء لم يوجدوا أبداً ، وتنسب أعمالاً لغير أصحابها الأصليين … أتسمي هذا ابتذالاً
ضحك كطفل :
– لكن حوارك الطويل معي سيفسد إيقاع القصة ويجعلها مملة ..
– لا بأس ، لن أنسخه كاملاً ، ثم أني لا أريد أن أفقد متعة الحديث معك.
فجأة ارتسمت سحابة من الكآبة في تراسيم وجهه الأعمى ، بدا كأنه يشتاق للحياة التي تركها وراءه ، والتي تمنى دوماً مغادرتها ، وبنبرة حزينة أكمل حديثه :
– في حياتي تطلعت بسرور نحو موتي ، أما الآن فقد مللت هذا الموت ، إنه الحياة ذاتها ولكن بشكل أبدي وبلا لحظات نوم وأحلام يقظة .. والأسوأ إنه بلا كتب لتقرأها .. لم أكن أخشى يوماً عدم قراءة الكلاسيكيين ، ولكنني كنت أحبط عندما أفكر بأني لن أقرأ كتب من سيأتون بعدي .
نظرت نحوه وأردت أن أغادر ، كانت عيناه مليئة بالدموع لكنه لم يبكِ ، قلت له مطمئناً :
– لا تقلق يا بورخيس ، كل من أتى بعدك من كتب هو إعادة إنتاج وصياغة لما قيل قبلاً ، أظنكم قد بلغتم الحد الأقصى من الابداع …
أغلق الكتاب وأعود لحلكتي التي لا يسبر غورها .
مساع عبثية: المحاكاة
نعرف؛ منذ بورخيس ورولان بارت، أن كل عمل فني متشظ زمنياً، وأنه لا وجود لذلك العمل الك…
تعليقات الفيسبوك